في البدء يمكن الجزم أن اللغة ستظل اللغز المحير والمعجزة القائمة المرتبطة بالإنسان منذ مهد الوجود حتى كهولة الفناء، ومهما بلغت عبقرية هذا الإنسان فإنها تظل سطحية في محاولتها_ على مدى آلالاف السنين_ أن تجيب على كل الأسئلة المتعلقة باللغة، وما تعنيه للإنسان؟ وما مدى سيطرتها عليه أو تمكنه من ترويضها وجعلها خاضعة لمعارفه وعلومه، وهل ظفر بالطريقة الأمثل لعلاقته معها التي تحقق له المجد، أو أن فهمه اقتصر على نافذة ضيقة منها، ولم يتحرر من قيودها؟.
ولستُ مبالغاً بالقول إن اللغة معجزة الوجود الأولى والأخطر؛ فإطالة التأمل فيها من جوانب فلسفية قريبة أو بعيدة سيتضح أنها القوة الخفية العظمى التي تسير وتتحكم بهذا الوجود، ولا يسيئ أحد النظر في هذه النقطة، ويعتبرها تجاوزاً للخالق؛ لأن الخالق جعل من اللغة أداة للتواصل مع عباده، ووعاء يستوعب تعليماته وإضاءاته للإنسان لتنظيم مسيرته في هذا الوجود.
ومن ضمن الإشكاليات العالقة في محيط التيه بشأن هذه المعجزة إشكالية الوصول إلى ماهية اللغة، هل تعد أداة للتفكير أو للتعبير؟.
وهذا التساؤل يجر إلى جذر عميق يكشف عن نقطة مفصلية في غاية الأهمية تفكك التركيبة المعقدة لعلاقة الإنسان باللغة، وكيفية تأثيرها على الإنسان وتغيير حياته سلباً أو إيجاباً .
تأرجح القدماء والمحدثون من فلاسفة ومفكرين وبلغاء ومتكلمين ومفسرين وعلماء الفيزياء وعلم النفس والطب العصبي والبيولوجي، وتباينت آراؤهم بهذا الخصوص، لكن تلك الآراء لم تنه الحيرة، وتركت زاوية النظر للغة كأداة تفكير أو تعبير موارباً، بسبب تأثير بعض الموانع كالأديان والثقافات والفلسفات والتصورات التي أفرزت مؤيدين للتعبير، وأعاقت الجزم بأن اللغة أداة للتفكير بشكل صارم، لأن هذا الجزم سيتعارض مع معتقدات البعض وينسف تصوراتهم القاصرة وفهمهم المتحجر لبعض الثوابت المترسخة في وعيهم للحياة والوجود .
تتسم اللغة بشكل عام بسمات التغير والتجديد والتحول والتبديل، والتطور والانكماش والموت والحياة على نفس شاكلة الكائن البشري، وهذا النمط الوجودي للغة ينم عن حركة وحيوية وينبثق عن خضوعها لتفكير إنساني يعمل بها ويتحرك في نطاقها، وبالتالي تتغير أشكالها وأساليبها وأجناسها، ولو كانت مجرد أداة للتعبير لفقدت السمات الآنفة الذكر، ولم تشهد تبدلاً في أحوالها، كونها مقتصرة على تعابير بعينها لا تتداخل مع طرق التفكير الإنسانية التي تقوده من مسار إلى آخر.
ومن هنا كان هناك طغيان بالنظرة التعبيرية للغة في عصر الأيمان، وهو عصر ظهور الأديان السماوية، وذلك بتقييد اللغة في النطاق الديني الذي قيد التفكير وحصر مكانة اللغة في حياة الإنسان باستيعابها لترديد التعاويذ والشعارات الدينية، وحين بزغ عصر النهضة المتكئ على العقل والتفكير تغيرت النظرة كلياً للغة وأصبحت أداة للتفكير دون منازع لأنها تحررت من الجمود والشلل الذي لحق بها لقرون، فعلى سبيل المثال تنحت اللغة اللاتينية وتولدت اللغات الأوربية الحديثة التي كانت نتيجة حتمية لطرق تفكير مختلفة تجاوزت التعبير اللغوي اللاتيني وتخلت عنه نهائياً .
كانت نقطة الانطلاق الفعلية في هذا الشأن قد جسدتها الفلسفة الحديثة بنظرية ديكارت” أنا أفكر إذن أنا موجود” الرابطة بين معنى البقاء وأداة التفكير لتتوالى بعدها جهود لاحقة تحفز درب التفكير، كونه الأجدر للتخلص من الجهل والتخلف وقطع الصلة بالعصور التعبيرية المظلمة، ولذا حققت بعض اللغات قفزات هائلة وشيوعاً متسارعاً وذلك بفعل تفكير الناطقين لها، الذين أثبتوا حضورها حين فكروا بها واخترعوا وابتكروا، وهنا تكمن الحقيقة المتعلقة بأن استخدام الإنسان للغة كأداة للتفكير كفيل بتطوره وتحدثه، وهذا الأمر لم يخصص التطور الهائل على لغة واحدة، وإنما أصبح كل مجتمع لغوي قادر على النهوض حتى لوكانت لغته خاصة بمجموعة ضئيلة من الناس، ولم تتغير حياة شعوب كثيرة ما زالت لغتها مجرد أداة للتعبير وليس للتفكير .
اللسانيات الحديثة تفرعت إلى عدة أفرع كل منها تبحث عن علاقة اللغة بالدماغ البشري وطريقة علاقتهما، فظهرت اللسانيات العصبية المتخصصة في تشريح المسألة بيلوجياً وفيزيائياً وتوصلت إلى أن الإنسان يفكر باللغة أكثر من تعبيره بها، لأن التفكير كلي والتعبير جزئي، وهذه ما أكده علم اللغة الإدراكي المستند على أبحاث دقيقة ربطت ربطاً قطعياً بين اللغة والتفكير من خلال دراستها للطريقة التي يعمل بها المخترعون ويبنون فيها بحوثهم ويتوصلون فيها إلى استنتاجاتهم، حيث تلعب اللغة دوراً فعالاً في العملية برمتها، ويعتبر ذلك إثباتاً آخر لهذه القضية، كما نحى علم اللغة الإدراكى منحاً مختلفاً من خلال اهتمامه بخطاب رسائل التبادل التجارية لعدة سنوات بين تجار هونج كونغ وتجار بريطانيا، والتوصل إلى أن الإنجليز يدخلون في صلب الموضوع مباشرة بينما الصينيون يسهبون كثيراً قبل الولوج في الغرض التجاري من الرسالة، وهذا ناجم عن طريقة التفكير المختلفة للطرفين، فاللغة متحكمة بالتفكير حتى في أدق التفاصيل ولا يمكن إغفال هذه العلاقة أو تجاهلها .
ومن جانب آخر وجد أن اللغة كانت تمثل نقطة التميز والهيمنة بين المستعمِر والمستعمَر حتى لو تحدث بلغة المحتل لأن الفارق بينهما طريقة التفكير الراقية الخاصة بالقوى المستعمِرة التي منحتها الهيمنة والمثالية وألصقت الدونية والهامشية بالشعوب المستعمَرة، وأعني هنا لغاتها الأصلية التي تمثل طريقة تفكير سطحية ومتخلفة واقتصارها على قيامها بمهمة التعبير عن فعل التواصل اليومي دون أن يكون لها أي أثر أو إسهام في صناعة التحضر والرقي، ولذا عمت النظرة السيادية للغة الاستعمار المكرسة لهذه المسافة، وتوغل الشعور بدونية الشعوب الأصلية وأدبها وثقافتها وهويتها، وقد تنبه لخطر هذا الخطاب ميشيل فوكو وإدوار سعيد وكثير من الفلاسفة والنقاد الغربيين .
وما زلنا حتى اللحظة نصارع موجة العولمة التي تكتسح دول العالم الثالث وتجمد أهمية لغاتهم البعيدة عن التفكير، لأن التفكير يعني إنتاج، والتعبير يعني استهلاك، وهكذا دواليك .
وفي سياق لغتنا العربية تبدو هذه المعضلة أكبر خطر يهدد لغتنا العظيمة التي لم نمنحها المستوى اللائق بها بسبب اتخاذها أداة للتعبير، بل والخجل حتى من التعبير بها، وتماهينا مع اللغات العالمية كالإنجليزية، لكن مع ذلك يبدو تعلقنا بالإنجليزية تعلق تعبيري بحث، ولم نبلغ طريقة تفكيرها، ولذا ما زلنا غارقين في مستنقع التخلف والهشاشة والتطرف .
وعليه فإن التعبير باللغة يختزل الكثير من التطرف والعبودية والقيود والتحجر وتقديس الخطاب والموت في سبيله والبقاء حول طاحونة خطابات لها أكثر من ألف عام، لكن ضحاياه ما زالوا يتساقطون إلى اللحظة، وما زالت تلك التعابير ولغة الخطاب التعبيري تسيطر على العربية والعرب، ولم نسع إلى اتخاذها أداة للتفكير والخروج من عنق الزجاجة التي منعت تقدمنا وقذفتنا في جحيم الصراعات الخطابية الدموية.
وهنا فلا أشك مطلقاً بأن الإشكالية الجوهرية المتحكمة في مسارات الشعوب والمجتمعات تكمن في علاقتها بلغاتها، ويمكن استخلاص الكثير من الحقائق من خلال اللغة، فاللغة بمثابة الصندوق الأسود الخاص بكل مجتمع، وهذا ما توجهت نحوه الدراسات الثقافية والانثروبولوجية المعاصرة وقدمت نتائج مبهرة في هذا المضمار .